الفتح العربي لمصر
مقدمة
بذل الأقباط جهداً كبيراً قبل الفتح العربي ليتحرروا من نير الحكم البيزنطي ووحشية استبدادهم، لا شك أن هذه التصرفات التعسفية-التي ذكرناها في الأعداد السابقة- هي التي جعلت الأقباط يصرون على عدم الخضوع لقرارات مجمع خلقدونية, والتصدي لها بكل قوة.
من الملاحظ أن البلاد المصرية لم تكن كلها قد اعتنقت المسيحية، بل كان هناك عدد من المصريين ظلوا متمسكين بديانة الفراعنة, يكرمون آلهتهم (ايزيس وأوزوريس) ويعتنون بمعابدهم ( حتى سنة ٦٤٠ م). لذلك نجد بعض تلك المعتقدات القديمة لا زالت حتى اليوم متفشية وراسخة في النفوس وظاهرة في بعض التقاليد والعادات. كما كان يوجد في مصر كثير من اليهود (حوالي ٧٠ ألف) أغلبهم في الإسكندرية. لا يقحمون أنفسهم في أي خلاف سياسي أو نزاع طائفي، بل فضلوا التفرغ التام لنشاطهم الإقتصادي. مما جعلهم يسيطرون على كثير من المرافق, وأصبحوا عصب النشاط الإقتصادي.
كان عدد الأقباط اليعاقبة أيام الفتح العربي حوالي ٦ مليون, يقابلهم ٢٠٠ ألف فقط يخضعون للبطريرك الملكي، أغلبهم من أهل الإسكندرية الذين تشربوا بالروح البيزنطية, وكان لهم نفوذ كبير لانحياز السلطة المدنية لهم. وبسبب اضطهاد الولاة والأباطرة للأقباط, كان الشعب القبطي يميل إلى الغزاة العرب ومساعدتهم, مع بقاءه مخلصاً لعقيدته.
رسائل الرسول محمد إلى البلاد المجاورة:
بعث رسول الإسلام بعد صلح الحديبية رسائل إلى ملوك العجم يدعوهم إلى الإسلام........ وبعث ست رسل كل واحد بلسان الأمة التي بُعث إليها.....وصلت الرسالة إلى هرقل الذي كان حينئذ بمدينة حمص بالشام جاء فيها:« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله, إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى. أما بعد..... اسلم تسلم. واسلم يؤتك أجرك مرتين ...... الخ.
تعددت روايات المؤرخين من موقف هرقل من هذه الرسالة, وكان يعلم أن المسلمون قد أصبحوا وحدة سياسية واجتماعية قوية, فضلاً عن وحدتهم الدينية, وأن دولتهم أخذة في القوة والأتساع مما يهدد المصالح الرومانية. لذلك أريد أنَّ يتجنب الصدام العسكري مع هذه الدولة الجديدة, في وقت أنهك جيشه الروماني في حروبه مع الفرس. ويذكر الطبري: «أن الإمبراطور هرقل لم يكن راغب في الإسلام عن إيمان وعقيدة, إنما كان يهدف إلى المحافظة على عرشه، لذلك عرض على قومه الرومان كسب جانب العرب بأي وسيلة ممكنة......» كما حمل ( حاطب بن أبى بلتعة) كتاب محمد إلى المقوقس عظيم القبط في مصر. وأجمع المؤرخون على حسن استقبال المقوقس له, وإكرام وفادته. وبعث رداً رقيقاً إلى محمد, وأهدى إليه كسوةٍ, وبغلةٍ ليركبها, وحمارٍ أشهبٍ, وجاريتين ( هما ماريا القبطية التي تزوجها محمد, وسيرين التي أهداها إلى شاعره حسان بن ثابت
الفتح العربي
جهز عمر بن العاص جيشاً لفتح مصر بعد الانتهاء من فتح الشام. وبلغ المقوقس هذا الخبر, فأسرع بالتوجه إلى حصن بابيليون( بمصر القديمة)، وأخذ يعد العدة ويجهز الجيوش لمواجهة عمرو.
وأولى المناطق التي دار فيها القتال مدينة الفرما (غرب دمياط) وقد اندثرت الآن، واستمر القتال فيها شهراً تقريباً انتهى بانتصار العرب. وتشير الراويات التاريخية إلى مساعدة أقباط الفرما لعمرو بن العاص بناء على طلب البطريرك بنيامين الذي كتب إليهم من أحد أديرة الصعيد الذي كان معتكفاً فيه. ولم يبادر المقوقس بإرسال نجدة إلى أهل الفرما عندما علم بحصار العرب لها , بل تركهم يلاقون مصيرهم. إذ كان يقيم الاستحكامات في حصن بابيليون فقط, وكانت هذه أول خيانة أرتكبها في حق دولته. كما انه لم يسرع بإرسال نجدة إلى ابنته أرمنوسة في بلبيس ليشد أزرها ضد العرب. وفتح العرب بلبيس وأسَرَ أرمنوسة. لكن عمر بن العاص أحسن معاملتها, وأرسلها مكرمة إلى أبيها في حصن بابليون مع قيس بن سعد مع رسالة مضمونها:« أيها الملك لا بد لنا منكم, ولا ينجيكم منا إلا الإسلام, أو الجزية أو القتال..... » فوعده المقوقس بعرض هذه الأمور على قومه...... وسار جيش عمرو دون مقاومة حتى قرية (أم دينين التي كانت تقع مكان حديقة الأزبكية ألان). ولاقى فيها مقاومة عنيفة مما اضطره إلى طلب النجدة من الخليفة عمرو بن الخطاب الذي بادر بإرسال عشرة ألاف مقاتل بقيادة الزبير بن العوام. وقسم عمرو جنوده إلى ثلاث فرق حتى يوهم عدوه بكثرة جيوشه، في أم دينين, وأون (عين شمس), والفرقة الثالثة حاصرت حصن بابليون.
وبدأ أهل مصر, والأقباط خاصة, يقدمون المساعدة الفعالة للعرب, فقدموا لهم السفن ليتنقلوا بها عبر جانبي نهر النيل للسيطرة على ضفتيه,كما بني چورچ حاكم أحد الأقاليم ( كوبري) على قناة مدينة قليوب لتسهيل فتح المدن المصرية. ونجح عمرو في فتح مدينة أتريب(بنها حالياً) ومنوف بمساعدة القبط له.... وغير ذلك. أصبح القبط أعواناً للمسلمين, في حين ترك بعضهم دينهم واعتنقوا الإسلام, واستولوا على أملاك المسيحيين الملكيين الذين هربوا من وجه المسلمين. واستمر حصار حصن بابيليون سبعة أشهر, حتى تم اقتحامه, فأضطر المقوقس إلى طلب الصلح. وتم بالشروط الآتية:-
١- يفرض على كل قبط مصر, أعلاها وأسفلها دينارين, ويتساوى في ذالك الرفيع والوضيع, دون النساء والأطفال والشيوخ.
٢- يدفع كل واحد من ملاك الأراضي إلى جانب الدينارين, ثلاثة أرادب قمح, وقسطي زيت, وقسطي عسل رزقاً للمسلمين تقسم بينهم.
٣- يتم إحصاء جميع المسلمين ( كانوا في ذالك الوقت حوالي ١٢ألف) و يجب على أهالي مصر أن يقدموا لكل مسلم جبة صوف, وبرنس أو عمامة وسراويل, وخفين كل عام.
٤- أذا نفذ الأقباط الشروط السابقة, لا يسبى العرب النساء, و يترك للقبط أراضيهم, وأموالهم, ولا يتعرض لهم المسلمون في شيء منها. ولهم الأمان على عقائدهم وكنائسهم وأموالهم.
٥- يطبق العرب نفس الشروط على الرومان واليهود والنوبيون المقيمون بمصر. فإذا رفضوها فلهم حرية مغادرة البلاد.
ووافق المقوقس على هذه الشروط, وطلب من عمرو أن يأمر عند وفاته (المقوقس) أن يدفن في كنيسة أبو يحنس بالإسكندرية. لم يقبل هرقل الصلح الذي عقده عمرو مع المقوقس. وبعث بقوات رومانية كبيرة أغلقت أبواب الإسكندرية, وتأهبوا للقتال. وكانت الإسكندرية مدينة ذات حصون عظيمة، وأنقسم سكان الإسكندرية والمهاجرون إليها, إلى فريقين متخاصمين. ودار النزاع بينهما وهذا ناتج من الخلاف العقائدي بين الملكانيين واليعاقبة، وبين المسيحيين بصفة عامة وبين اليهود. وحاصر العرب الإسكندرية, وفي أثناء الحصار مات هرقل وتم فتح الإسكندرية. وعيّن عمرو عبد الله بن حذاقة حاكماً للإسكندرية, وعاد إلى الفسطاط ( مصر القديمة). وبذلك خلت الإسكندرية من الرومان، وبعد وفاة المقوقس أواخر عام ٦٤٣، عاد البطريرك بنيامين إلى كرسيه عام ٦٤٤. وثم تنيح البطريرك بنيامين عام ٦٦٢ م.